دراسات إسلامية

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

  

 

 

بقلم : الدكتور محمود محمد بابللي

 

      ويتضمن الفقرات التالية:

       (أ)   أبرز أنواع التدخل

       (ب) من هم أصحاب الحق في تطبيق هذا المبدأ

       (ج)  هذا المبدأ إيماني النزعة

 

( أ )    أبرز أنواع التدخل :

       إن هذا المبدأ الإسلامي – مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الذي كانت هذه الأمة بسببه وبايمانها بالله خيرَ أمة أخرجت للناس، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ﴾(1).

       هو من أبرز أنواع التدخل، بمفهومه العام، في الأمور التي توجب الأخذ والأمر بالمعروف، والاجتناب عن المنكر والنهي عنه، وما أكثرها من أمور تحدث عند غفلة الناس في تعاملهم بعضهم مع بعض، أو في تصرفاتهم أو في أقوالهم.. وكذلك في بعض الطاعات والعبادات التي تدخل فيها الأهواء والبدع، مما يزيّن الشيطان لأصحابها أنها مستحسنة ولازمة، وأنها لاتؤثر على العقيدة، وإنما تزيد في ميزان عمل الإنسان حسنًا.. فيصور لهم تحسينهم لهذه البدع أنها تقرب إلى الله، وهي مما لم يرد به أمر من الله ولا سنة من رسوله.

       والمعروف: هو كل ما أمر به الشرع، أو ماتعارف عليه الناسُ والتزموا به من أخلاق كريمة وتعامل سليم وسلوك مستقيم، ولم يخرج عما أمر به الشرعُ ودعا إليه.

       والمنكر: هو كل ما نهى عنه الشرع وآخذ عليه، أو ما استقبحه ونفرت منه طباعهم السليمة.

       وإذا ماخالف الناس هذا المبدأ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فإنه لابد من سلطة تلزمهم بالرجوع إلى طريق الحق وتجنب طريق الضلالة؛ إذ ليس بعد الحق إلاّ الضلال .

       وتحقيق ذلك : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من واجب الأعمال وأفضلها وأحسنها. وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(2).

       وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه؛ فان العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا.

       والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة .

       فالعمل الصالح لابد أن يراد به وجهُ الله تعالى، فإن الله تعالى لايقبل من العمل إلا ما أريد به وجهُه وحده، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك به غيري فأنا بري منه، وهو كله للذي أشرك"(3).

       ولهذا كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصًا، ولاتجعل لأحد فيه شيئًا)(4).

       وإن لبّ العقيدة الإسلامية يقوم على أساس الإيمان بالله وحده، ونفي ماسواه، وأن تكون  الأعمال جميعها خالصة لله وحده، ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. ويدعم هذا كله ويقويه التخلق بالصدق والعفاف وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله.. وأن مايتصادم مع هذه العقيدة السمحة يكون أمرًا مستنكرًا يجب تجنبه والابتعاد عنه، ثم النهي عنه وعدم إقراره لا بالفعل ولا بالقلب.

       وإن الامر بالمعروف لايتحقق إلا ممن التزم به، والنهي عن المنكر لايصح إلا ممن هو بعيد عنه، وبذلك تكون الدعوة صادقة ممن يقوم بها، ولاتستهجن منه.

(ب)     من هم أصصاب الحق في تطبيق هذا المبدأ؟

       إن ولاة الأمر هم أصحاب الحق الأول في تطبيق هذا المبدأ، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿اَلَّذِيْنَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلوٰةَ وَآتَوُا الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوْفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأُمُوْرِ﴾(5).

       والتمكين في الارض يعني السلطة والقدرة على تحقيق هذا التوجيه الإلزامي الذي يجب على وليّ الأمر الأخذ به بنفسه وبمن يثق به ويعتمد عليه.

       وهذا المبدأ هو من الولاية أو السلطة الممنوحة من الله سبحانه أيضًا للمؤمنين والمؤمنات لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(6).

       وهذه الولاية تصح بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات إلاّ من بعضهم لبعض، أي لاتصح ولاية غير المسلم على المسلم؛ لأن الولاية في الامور العامة هي الطاعة، والطاعة لله ولرسوله وللمؤمنين .

       وقد ذمَّ سبحانه وتعالى المنافقين والمنافقات؛ فوصفهم على خلاف ما وصف به المؤمنين والمؤمنات فقال: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(7).

       وإن هذا المبدأ هو صفة إيمانية يتحلى بها المؤمنون ممن سبقنا من أهل الكتاب لقوله سبحانه: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(8).

       فلم يشهد لهم رب العالمين بالصلاح لمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر(9).

       وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بني إسرائيل: إنهم لم يأتهم النقص إلاّ من بعد ماتهاونوا في تطبيق هذا المبدأ؛ فحقت عليهم كلمة الله باللعن على لسان داود وعيسى بن مريم: (إنّ أول مادخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل – أي على منكَر – فيقول: ياهذا اِتّق الله ودَعْ ما تصنع؛ فإنه لايحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(10)

       ثم قال صلى الله عليه وسلم : "كلاّ والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرًا ولتقصرنّه على الحق قصرًا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم"(11)

       فهل بعد هذا التهديد والوَعيد من شيء يجب الحرص على تحقيقه بين الناس من قبل صاحب السلطة أوّلاً، ثم من قبل المؤمنين بعضهم لبعض؟ في أن يتحقق فيهم تطبيق هذا المبدأ.

       إنه المبدأ الذي إن أخذت به الأمة الإسلامية، وأحسنت تطبيقه لاستعادت سيرتها الأولى؛ لأن الله سبحانه جعله من مميزات هذه الأمة وأنها لم تكن خير أمة إلا من بعد ماتحلّت بهذا المبدأ فأفلحت، وهو دعوة قائمة مستمرة لمن يريد سلوك طريق الفلاح والهداية .

 

(ج) هذا المبدأ إيماني النزعة:

       مما سبق الاستشهاد به من الأدلة الثابتة يتأكد لنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو من صفات من آمن بالله من جميع الأمم والرسالات، وأن من يتصف به يبتعد عن الكفر وعن النفاق وعن استحقاق اللعنة من الله، وهو سبيل إلى الفلاح المؤكد، لقوله سبحانه عمّن يلتزم بهذا المبدأ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾(12)، وقد سبق الاستشهاد بهذه الآية، غير أن القصد من تكرارها هنا هو إبراز تأكيد الله سبحانه لمن يأخذ بهذا المبدأ أنه من المفلحين .

       أما من لايأخذ به ويتهاون في أمره، فلابد أن يناله شيء من الوعيد الذي نزل بحق بني إسرائيل، فقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل؛ لأنهم ماكانوا يتناهَون عن منكر فعلوه، وكذلك فقد وصف رب العالمين المنافقين والمنافقات بأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فوعدهم ووعد الكفار معهم نارَ جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ولهم عذاب مقيم.

       وهل بعد هذا التهديد والوعيد من إهابة بالمسلمين من أن يحققوا في أنفسهم ماسبق لأجدادهم أن وصفهم الله سبحانه من أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس لأخذهم أنفسهم بهذا المبدأ؟ ووعدهم سبحانه بما يليق بهم من تكرمة وفضل ورضوان فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(13).

       وشتان بين الوصفين، وبين استحقاق كل من الطرفين، وبين مصير كل منهما، وهذه تكرمة من الله للمؤمنين والمؤمنات؛ لأنهم، إضافة إلى إيمانهم بالله، أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فاستحقوا من الله ما أكرمهم به.

       ومن هذا يتأكد لنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الصفات الإيمانية لهذه الأمة الإسلامية ، وأنها مااستحقت أن تكون خير أمة أخرجت للناس إلا لتمتعها بهذين الوصفين العظيمين .

       ولنتصور أن كل واحد منا – في يومنا هذا – طبّق على نفسه هذا المبدأ ، وأن كل واحد منا وقف عند حدوده ولم يتعدّاها إلى مخالفة أو معصية، كيف يكون حالنا؟

       لاشكّ أن الاستقامة والأمانة والصدق في المواعيد، والإتقان في العمل وحسن التعايش مع الناس والأخذ بالأسباب في الاعداد والاستعداد والبذل في سبيل الله.. كل هذا سيكون واردًا وسينصرف كل إنسان إلى ماهو داخل ضمن اختصاصه، دون تدخل في شؤون الآخرين، أي سيتفرّغ إلى عمله، ويبتعد عن إضاعة الأوقات فيما لاينفع، وسيحرص أيضًا على مساعدة غيره فيما يقدر عليه ابتغاء وجه الله، وسيكون تعاونهم على البر والتقوى.. إلى آخر هذه الصفات الحميدة التي نفتقر – في أيامنا هذه – إلى الكثير منها، ولنقرأ قوله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(14).

       وهذا التوجيه الإلهي هو مصلحة الفرد، كما هو في مصلحة المجتمع، فمن يتنكب عنه أو ينقلب عليه، يضر بمصلحته وبمصلحة مجتمعه، ولايحصد عاقبة ذلك إلا ندمًا في الدنيا وخزيًا وعذابًا في الآخرة .

*  *  *

الهوامش :

(1)        سورة آل عمران الآية 110.

(2)        سورة تبارك الآية 2.

(3)        مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية ج 28 ص 134.

(4)        المرجع السابق ص 135.

(5)        سورة الحج الآية 41.

(6)        سورة التوبة الآية 71.

(7)        سورة التوبة الآية 67.

(8)        سورة آل عمران الآية 113-114.

(9)        من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للأستاذ أحمد عزالدين البيانوني ص 9.

(10)   سورة المائدة الآيات 78-81.

(11)   رواه الإمام أبو داود والإمام الترمذي.

(12)   سورة آل عمران الآية 110.

(13)   سورة التوبة الآية 72.

(14)   سورة النساء الآية 114.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32